كثيرا ما يردد الإعلام الموالي للسيسي ، والموجه من الأجهزة الأمنية ، أن المعارضة المصرية في تركيا كانت مجرد ورقة يستخدمها اردوغان لتحقيق أهدافه السياسية ومصالحه ، ثم يلقي بها بعد استخدامها ، وتزايدت تلك التعليقات بعد وقف برامج وتصريحات أربعة من الإعلاميين المصريين المعارضين المعروفين ، والمقيمين في إسطنبول ، فهل فعلا كانت المعارضة المصرية ورقة في يد اردوغان ؟ أو تمثل له مصلحة عارضة يستخدمها ثم يتخلص منها ؟ .
الحقيقة أن أي شخص تماس مع التركيبة السياسية في تركيا ، لا يحتاج إلى كثير تأمل أو فكر أو تحليل ، لكي يدرك أن المعارضة الإسلامية تحديدا في تركيا كانت عبئا ثقيلا على اردوغان وحزبه ، وأنها مثلت نزيفا شعبيا من رصيده ، ومثلت ـ مع اللاجئين السوريين ـ ضغطا شديدا على سلطته من قبل قوى المعارضة التركية القوية للغاية ، أي أن المعارضة المصرية في تركيا كانت ورقة في يد خصوم اردوغان ومعارضيه ، والذين يملكون آلة إعلامية ضخمة ، وهي المعارضة الشرسة التي تتهم اردوغان أنه يحتضن المعارضة المصرية من باب التعاطف الأيديولوجي مع "أمثاله" من الإسلاميين ، وأنه لا مصلحة لتركيا من أي لون لكي تكون في خصومة مع النظام المصري بقيادة السيسي ، وكلامهم صحيح قطعا ، لكن المسألة ليست أيديولوجية خالصة ، بقدر ما هي متصلة بالحساسية التركية الشديدة عند الإسلاميين تحديدا ، من الانقلابات العسكرية ، فما بالك أن يكون الانقلاب العسكري في مصر أطاح بحكومة لها توجه إسلامي أو محافظ .
 
 
عانت تركيا من أربعة انقلابات عسكرية ، بعضها كان دمويا وقتل فيه آلاف المعارضين ، وسخر العسكر الانقلابيون القضاء لإصدار أحكام بإعدام العشرات من الوزراء والقيادات ، وسجن مئات الألوف ، وتشرد في جنبات الأرض مئات الألوف ، ودمرت الأحزاب وصودرت الحريات العامة ، وديس الجميع بالبيادة العسكرية ، صحيح أن جميع القوى دفعت ثمنا لتلك الانقلابات ، لكن الإسلاميين الأتراك كانوا أكثر من دفع الثمن ، وعندما جاء اردوغان إلى السلطة ، أتى بعد صدام مع العسكر ، وسجنوه ، وحظروا اشتغاله بالسياسة ، لذلك كان أحد أهم مشروعات اردوغان هو تفكيك السيطرة العسكرية على مفاصل الدولة ، ونجح في ذلك نجاحا مذهلا ، بحنكة رجل دولة ذكي ، وصبور ، وبعيد الرؤية ، وقوي ، وجريء للغاية .
 
 
لذلك عندما وقع الانقلاب العسكري في مصر ، هيج على اردوغان والأتراك الذكريات السوداء للانقلابات العسكرية في تركيا ، وكان له موقف شديد العصبية والعنف تجاه انقلاب مصر ، خاصة وأن المخاوف لم تكن بعيدة عن تركيا نفسها من خطر الانقلابات ، وبالفعل شهدت محاولة انقلاب عسكري في 2016 ولكنها فشلت لأسباب عديدة ، ومن هنا كان تعاطف اردوغان مع المصريين المعارضين الفارين من بطش الانقلاب ، فهو يعرف معنى بطش الانقلابيين ودمويتهم ، وقد فعل ذلك على الرغم من أن كل الحسابات "المصلحية" كانت ضده ، وتصب في تيار عكس اختياره .
كانت العلاقات الاقتصادية بين تركيا ومصر قد تنامت بصورة متسارعة مع نهاية عصر مبارك وتبشر بازدهار متبادل ، وأنشئت مصانع تركية في العاشر من رمضان والسادس من أكتوبر وغيرها وشركات تجارية كبرى ، وتم توثيق اتفاقيات تجارية وحتى ضرائبية بين البلدين ، للإعفاء الضريبي والجمركي المتبادل ، وخططت تركيا لجعل مصر بوابتها الاقتصادية إلى افريقيا ، وتشكلت لجان كثيرة بين البلدين لتخطيط رؤية مستقبلة متفائلة للغاية بالتعاون لمصلحة البلدين .
 
 
كل ذلك تعطل بسبب موقف اردوغان من الانقلاب ، وتعثرت اتفاقيات ، لكن العلاقات الاستخباراتية غير المعلنة حفظت المصالح في حدودها الدنيا ، فلم تمس المصانع التركية والشركات التركية في القاهرة ، كما استمرت حركة الاستيراد والتصدير المتبادلة بين البلدين ، وإن كانت بوتيرة أقل ، كما تقلصت حركة السياحة إلى تركيا ، والتي كانت قد تنامت كثيرا في الفترات الأخيرة من عصر مبارك ، بسبب القيود التي فرضها النظام الجديد على الحركة والتنقل والتحرشات الأمنية بمن يسافرون إلى إسطنبول ووضعهم تحت مجهر الشك .
 
 
ليس هذا فقط ، بل تسبب تعاطف اردوغان مع المعارضين المصريين في تأزم علاقته بالامارات ، التي كانت تطارد الإسلاميين المصريين في كل مكان في العالم ، وليس في مصر فقط ، وتحرض عليهم ، ودخلت في مواجهة مكلفة جدا لأردوغان ، وخسر اقتصاديا وسياسيا كثيرا بسببها ، وكان في غنى عنها ، وكانت "ورقة" المعارضة المصرية هنا ضد مصالح اردوغان السياسية والاقتصاية .
باختصار ، المعارضة المصرية في تركيا كانت ورقة في يد خصوم اردوغان ، وليس في يده ، وكانت ورقة سياسية سلبية تخسره سياسيا ولا تساعده ولا تفيده بأي مستوى ، لقد خسر اردوغان كثيرا ـ سياسيا واقتصاديا ـ من احتضانه للمعارضة المصرية ، كانت مديونية أخلاقية يسددها بمروءة ، ولم تكن مصلحة اردوغان في معاداة النظام المصري أبدا ، وبالتالي ففكرة أنه يستخدم المعارضة ورقة ، هي خرافة وسذاجة أيضا ، ونوع من التراشق الإعلامي والسباب ليس أكثر ، فما هي هذه الورقة ؟ وما قيمتها ؟ وما هدفها ؟ وما نتائجها ، هذا كلام غاية في السخافة ومحض هراء .
 
 
ورغم أنه مقبل على انتخابات رئاسية وبرلمانية تاريخية ، بالغة الخطورة يستخدم خصومه فيها ورقة اللاجئين والمعارضين الأجانب لضربه ، ورغم أنه يتعرض لمحاولات حصار في المتوسط تقودها فرنسا واليونان وإسرائيل وقبرص ، مدعومة بميول إماراتية وسعودية ومصرية ، ورغم العلاقة الخطرة والمتقلبة بينه وبين بوتين ، ورغم التحريض العلني اليومي عليه من الصحافة الأمريكية والفرنسية والألمانية والبريطانية ، في برنامج نشر يومي لا يتخلف أبدا ، ورغم التحذير الدولي من خطورة صعود الصناعات العسكرية التركية في عهد اردوغان ، وتشكيل لجان أمريكية برئاسة "جون بولتون" ـ مستشار الأمن الأمريكي السابق ـ والتي تقول علنا أنها تعمل على إسقاط اردوغان ، إلا أنه ما زال يحتضن المعارضة المصرية ويوفر لها الأمان ويدفع ضريبة وجودها بكل نبل ، بل لديه معارضون من بلدان إسلامية أخرى فروا من الظلم أو خوف بطش الحكومة ، يمنحهم الرعاية والأمان ، من السعودية واليمن وليبيا والعراق وايران وسوريا والسودان والصين "الإيغور" وغيرهم ، ولا يضج منهم ، بل وينافح عن وجودهم ضد تحرشات المعارضة التركية .
 
 
لكن قدرات الدول على التحمل ، مثل الأفراد ، لها طاقة ، ولها مدى زمني ، وتستدعي بعض المرونة لاستيعاب المخاطر وتفاديها ، ولا يمكن أن تطلب من تركيا ـ أو غيرها ـ أن تخوض معركة شعب آخر إلى الأبد بدون أي أفق للنهاية ، خاصة وقوى ذلك الشعب مبعثرة وقدراتها محدودة وسقف طموحها يتآكل سنويا ، وهي لا تساعد نفسها أساسا ، وفي هذا السياق ينبغي احترام محاولات تركيا كسر الحصار في شرق المتوسط الذي يحرم شعبها من عشرات المليارات من الدولارات في حقول غاز سهلة ، ولا يمكن ـ أخلاقيا وسياسيا ـ أن تلومه إذا طلب من بعض هؤلاء المعارضين الأجانب على أرضه تحجيم أو وقف نشاطهم المعارض في تلك المرحلة ، لما يسببه من ضرر كبير على مصالح الشعب التركي في تلك الظروف ، خاصة وأن بعض الممارسات الإعلامية كانت ـ بالفعل ـ تتجاوز قواعد مهنية يستحيل تجاوزها أو السماح بها حتى لو كنت تبث من لندن أو باريس ، كما أن هذا الطلب المحدود ـ أربعة أشخاص ـ لا يمس عشرات الآلاف من المعارضين المصريين المقيمين في تركيا .