تتحدث هذه الورقة التحليلية عن قوة الفصائل المسلحة التي تعرف بأنها حليفة لإيران ضمن تشكيلات الحشد الشعبي، ونفوذها السياسي وإمكانياتها العسكرية والاقتصادية المتنامية وتطويرها ما يبدو أنها "مؤسسات موازية" في مقابل مؤسسات الدولة العراقية.

يشغل الجدل الخاص بفصائل مسلحة منخرطة ضمن (الحشد الشعبي)، جزءًا أساسيًّا من اهتمامات الشارع السياسي العراقي؛ حيث بات لهذه الفصائل التي تُعرف بقربها من إيران، وولائها المعلن لقيادتها الدينية، مصادر قوة وتمويل وقدرات منحتها قابلية تشكيل مؤسسات موازية لمؤسسات الدولة، حتى باتت عبارة (دولة موازية) أمرًا غير بعيد عن الواقع.

تمثل هذه الفصائل المسلحة جزءًا رئيسيًّا من الحشد الشعبي وتتولى مواقعه القيادية، وتعرِّف نفسها بأنها جزء من (محور المقاومة) التابع لإيران في عموم المنطقة، وتُعرف إعلاميًّا بعبارة (الفصائل الولائية) نسبة لولائها لإيران والمرشد الأعلى الإيراني، علي خامنئي. سنعرِّف هذه الفصائل تحت اسم "الفصائل المتنفذة"، ومن أبرزها: منظمة بدر/الجناح العسكري وكتائب حزب الله وحركة عصائب أهل الحق وكتائب سيد الشهداء وكتائب الإمام علي بالإضافة إلى حركة حزب الله النجباء وسرايا طليعة الخراساني.

لقد شكَّل وجود قوات الحشد الشعبي وفق هيكلته المقرَّة رسميًّا، وطبيعة ارتباطها "عمليًّا" بمؤسسات الدولة، دافعًا لقيادات "الفصائل المتنفذة" ضمن تشكيلاته لبناء إدارات خاصة به، كالمحاكم والمعتقلات ومعامل التصنيع العسكري وغيرها من المؤسسات الموازية لمؤسسات الدولة العراقية في محاكاةٍ لأساليب العمل المتبعة في قوة الحرس الثوري الإيراني، أو ذراعه الأقرب إليه من حيث الهيكلية المؤسساتية، حزب الله اللبناني.

ورسميًّا، يُعد الحشد الشعبي "تشكيلًا عسكريًّا مستقلًّا وجزءًا من القوات المسلحة العراقية ويرتبط بالقائد العام للقوات المسلحة" الذي هو نفسه رئيس الوزراء.

وتتكون هيئة الحشد الشعبي من أكثر من 164 ألف مقاتل يتوزعون بنحو 110 ألف مقاتل على 67 فصيلًا (شيعة) بينها 44 فصيلًا (1) ترتبط ببيعة شرعية للمرشد الإيراني الأعلى، علي خامنئي، و9 فصائل من الحشد العشائري (نحو 40 إلى 50 ألف مقاتل من العرب السُّنَّة) (2)، و9 فصائل (أقل من 10 آلاف مقاتل) من المكونات الأخرى، المسيحية والأيزيدية والتركمانية وغيرها، ينتشرون في مناطق سهل نينوى والمناطق المُتنازع عليها بين حكومتي بغداد وأربيل.

ومنذ نهاية عام 2017، وبعد الإعلان عن هزيمة تنظيم الدولة، بدأت منافسة الحشد الشعبي لمؤسسات الدولة العاملة في عدد من القطاعات في المناطق التي كانت تحت سيطرة التنظيم، والاستحواذ على الجزء الأكبر من مشاريع إعادة الإعمار ومشاريع تنمية الأقاليم تحت إشراف "الفصائل المتنفذة" في الحشد وبشكل مستقل بات يشكِّل ما يُشبه المؤسسات الموازية لمؤسسات الدولة العراقية، وقد ترافقت هذه الظاهرة، مع ممارسات مماثلة على الصعيد العسكري والتنظيم الداخلي، حتى أصبح الحديث عن "دولة موازية" في مقابل الدولة العراقية، تعبيرًا مجازيًّا مقبولًا.

وتُثير إجراءات الحشد الشعبي لفرض الأمر الواقع قلقًا لدى الحكومة الاتحادية التي تحاول استعادة قرار مؤسسات الدولة العراقية وإنفاذ القانون. وترفض "الفصائل المتنفذة" الانسحاب من محافظات غرب وشمال غربي العراق خلافًا لقانون هيئة الحشد الشعبي الذي ينص على أن "يكون إعادة انتشار وتوزيع القوات في المحافظات من صلاحيات القائد العام للقوات المسلحة حصرًا".

كما أن تحقيق المكاسب الاقتصادية لصالح "الفصائل المتنفذة" على حساب مؤسسات الدولة العراقية، من شأنه أن يقوض سيادة الدولة على مؤسساتها ويعطل نمو القطاعات الحكومية والقطاع الخاص، بالإضافة إلى حرمان ميزانية الدولة من إيرادات إضافية يمكن أن تسهم في إعادة تأهيل البنية التحتية وإنعاش الاقتصاد الذي أنهكته الحرب ضد تنظيم الدولة. 

ملامح بناء قدرات الدولة الموازية

أولًا: النفوذ السياسي

لتعزيز نفوذها السياسي في مراكز القرار بالدولة العراقية، شكَّلت "الفصائل المتنفذة" تحالف "الفتح" برئاسة هادي العامري الأمين العام لمنظمة بدر الذي شارك بانتخابات 2018 وحصل على 47 مقعدًا من مقاعد مجلس النواب البالغ عددها 329 مقعدًا.

ويمثل التحالف الذي يضم 18 كيانًا سياسيًّا معظمها أجنحة سياسية للفصائل المسلحة الحليفة لإيران ضمن تشكيلات الحشد الشعبي، الجناحَ السياسي لتلك الفصائل.

ويضم تحالف الفتح ممثلي أكبر الفصائل المسلحة، مثل منظمة بدر وعصائب أهل الحق وكتائب "جُند الإمام" (3) وفصائل أخرى حليفة لإيران.

ويستخدم قادة "الفصائل المتنفذة" نفوذهم السياسي من خلال تمثيلهم في كتلة الفتح النيابية، وتعيين مسؤولين من المنتمين إليها أو المقربين منها، على أساس توزيع السلطات في مؤسسات الدولة وفق مبدأ "المحاصصة" المعمول به بعد غزو العراق، عام 2003.

ثانيًا: القدرات الاقتصادية 

بعد انتهاء المهام القتالية لفصائل الحشد الشعبي في قتال تنظيم الدولة، نهاية عام 2017، عززت "الفصائل المتنفذة" مكانتها في ميادين شتى خارج مؤسسات الدولة العراقية عبر بناء مؤسسات واقتصاد مواز مستقل عن الدولة، خاصة في المحافظات التي استعادتها القوات الأمنية من التنظيم بمشاركة الحشد الشعبي وبدعم من التحالف الدولي.

ولمعظم "الفصائل المتنفذة"، التي هي في الغالب مجموعات شيعية مسلحة مرتبطة بفيلق القدس الإيراني، مكاتب اقتصادية في مدنٍ ومحافظاتٍ عراقية، بما فيها العاصمة بغداد، تتوزع مهامها بين جمع التبرعات والتجنيد وتحقيق عائدات مالية عبر المكاتب الاقتصادية التي تعمل دون ترخيص رسمي من الحكومة.

ولعبت هذه المكاتب دورًا في الاستيلاء على "مقدرات مدينة الموصل الاقتصادية" (4) ، والاستيلاء على "حقول النفط في المحافظة بموجب موافقات رسمية من الأمانة العامة لمجلس الوزراء" (5) .

وتفرض المكاتب الاقتصادية "رسومًا شهرية على أصحاب المقاهي والمطاعم والتجار، بالإضافةِ إلى رسوم على شاحنات نقل البضائع التي تدخل بعض المدن الخاضعة لنفوذ الفصائل" (6)، وتحقق عائدات تقدر بـ"ملايين الدولارات من بيع كل شيء بدءًا من السيارات المحطمة والأسلحة الخربة وانتهاء بصهاريج المياه وإطارات النوافذ"، وهي كميات ضخمة تقدر بـ"مئات آلاف الأطنان" (7).

وتزيد إيرادات إحدى نقاط التفتيش بين محافظتي ديالى وكركوك على "أكثر من مليون دولار يوميًّا، لصالح كتائب حزب الله ومنظمة بدر وعصائب أهل الحق" (8).

وتعمل "الفصائل المتنفذة" على زيادة إيراداتها من خلال منافذ عدة مثل بناء المستشفيات وافتتاح "جامعات" (9) أو مدارس للتعليم الثانوي والمتوسط والاستثمار في مراكز التسوق.

وفي دلالة على نفوذ "الفصائل المتنفذة" في مؤسسات الدولة الاقتصادية والعسكرية، تستحوذ هذه الفصائل على مؤسسات تابعة للدولة عن طريق تسليمها مباشرة (10) من قبل المسؤولين الحكوميين دون اتباع الإجراءات القانونية المعتمدة في إحالة بعض المؤسسات أو الشركات المملوكة للدولة إلى أطراف أخرى عن طريق المناقصات، أو وفق قانون الاستثمار.

ثالثًا: الإمكانيات المالية

تستثمر "الفصائل المتنفذة" نفوذها في مجلس النواب لزيادة تخصيصات الحشد الشعبي من ميزانية الدولة العراقية التي بلغت في موازنة 2021 أكثر من 2.4 تريليون دينار (1.6 مليار دولار).

وتستحوذ بعض الفصائل والأحزاب السياسية المتنفذة على معظم إيرادات المنافذ الحدودية بينما يذهب الجزء اليسير منها إلى خزينة الدولة العراقية.

وتُقدَّر الإيرادات السنوية المُفترض تحقيقها من المنافذ الحدودية بنحو "عشرة مليارات دولار سنويًّا، لا يصل منها إلى خزينة الدولة العراقية سوى 2.4 مليار دولار" (11)، أي إن إيرادات "الفصائل المتنفذة" والأحزاب السياسية التي هي في حقيقتها أجنحة سياسية للفصائل المسلحة، تحقق ما يصل إلى 7.6 مليارات دولار سنويًّا. 

وتقدر عائدات الفساد المالي في منفذ القائم الحدودي الخاضع بشكل ما لسيطرة "الفصائل المتنفذة"، بملايين الدولارات شهريًّا من عمليات "تهريب المواشي والسلع والأسلحة" (12) عبر المنافذ غير الرسمية، التي تحولت إلى "معبرٍ رئيسي لعمليات تهريب النفط والسلاح والمخدرات" (13) أيضًا.

وتُسيطر عصائب أهل الحق، وهي من كُبرى "الفصائل المتنفذة" التي تتشكل منها الدولة الموازية على ما يصل إلى "80 بالمئة من إيرادات منفذ الشيب الحدودي مع إيران" (14).

رابعًا: القدرات القتالية للدولة الموازية

بموجب قانون هيئة الحشد الشعبي الذي أقرَّه مجلس النواب العراقي، في أكتوبر/تشرين الأول 2016، فإن الحكومة الاتحادية ووزارة الدفاع ملزمتان بتأمين متطلبات التجهيز والتسليح لتشكيلات الحشد الشعبي باعتباره "تشكيلًا عسكريًّا مستقلًّا وجزءًا من القوات المسلحة العراقية" (15).

وخلال معارك استعادة المدن في الحرب على تنظيم الدولة، بين يونيو/حزيران 2014 وديسمبر/كانون الأول 2017، فإن فصائل الحشد الشعبي تجهزت عبر الحكومة العراقية أو المساعدات التي قدمتها إيران مثل "التدريب والمشورة، وأيضًا السلاح الثقيل والمعدات العسكرية" (16).

بالإضافة إلى تخصيصات "مستقلة" من الموازنة الاتحادية لشراء الأسلحة بلغت في موازنة 2019 على سبيل المثال، 80 مليون دولار من أصل 906 ملايين دولار لوزارتي الدفاع (600 مليون) والداخلية (146 مليونًا) وجهاز مكافحة الإرهاب (80 مليونًا).

ليس من الواضح حجم التسليح للفصائل المتنفذة في الحشد الشعبي، لكن متابعة المعارك التي خاضتها ضد تنظيم الدولة تشير إلى استخدام سيارات رباعية الدفع حديثة وراجمات الصواريخ وصواريخ الكاتيوشا والرشاشات الرباعية والأحادية وعجلات الهمر الأميركية المدرعة ومدرعات روسية وأميركية وناقلات جنود مدرعة ودبابات روسية "T72" وكاسحات ألغام ومدافع مختلفة العيارات، وصواريخ محمولة مضادة للدروع، بالإضافة إلى تطوير منصات إطلاق الصواريخ على بعض أنواع العجلات، وزيادة مديات الصواريخ الميدانية والطائرات المسيرة وغير ذلك.

لكن التطور الأبرز في التسليح النوعي للفصائل المتنفذة، مواصلة إيران تزويدها بالمزيد من "الصواريخ البالستية" (17)، التي يمكن لها أن تشكِّل تهديدًا لدول الجوار الحليفة للولايات المتحدة، أو التي لها علاقات متوترة مع إيران. 

وتتحكم "إيران بعملية إطلاق الصواريخ" (18)، بينما لا تستطيع الحكومة العراقية منع "الفصائل المتنفذة" من إطلاق الصواريخ على المصالح الأميركية في العراق، أو مصالح الدول الحليفة للولايات المتحدة في المنطقة، مثل السعودية التي تعرضت خطوط أنابيب نفط في عمق أراضيها، في 14 مايو/أيار 2019، لهجمات انطلقت من "جنوب العراق" (19) وليس من اليمن. 

وأظهر الاستعراض المركزي للحشد الشعبي في معسكر "أبو منتظر المحمداوي" في ديالى (معسكر أشرف سابقًا) مجموعة كبيرة من الأنظمة الدفاعية والآليات المدرعة والطائرات المسيرة وغيرها مما جعل قواته تبدو كقوة جيش نظامي في موازاة قوة وقدرات الجيش العراقي أو تتفوق "نوعيًّا" عليه.

ونشر عدد من الحسابات التابعة للفصائل المتنفذة أو المقربة منها في موقع التليغرام، عشرات التسجيلات المصورة ومئات الصور للاستعراض أبرزت فيها المزيد من الآليات والمعدات القتالية المتطورة، ونقلت صورًا لمحطات "سراج المحمولة" على عجلات عسكرية، وهي محطات للقيادة والسيطرة مرتبطة بالأقمار الصناعية مهمتها مراقبة المناطق الحدودية والمناطق ذات الأهمية لتلك الفصائل، مثل القواعد الأميركية.

كما ظهرت في الاستعراض مركبات من نوع "طوفان" المضادة للألغام، التي تستخدم من قبل "الحرس الثوري الإيراني والحشد الشعبي العراقي والجيش السوري" (20).

واستعرضت "الفصائل المتنفذة" أنواعًا من قاذفات الصواريخ 122 ملليمترًا من طراز "رعد 24" و"رعد 36" مثبتة على شاحنات إيرانية الصنع، ودبابات من طراز "T-72" (21)، و"دبابات T 90" (22) الروسية.

كما ظهر عدد من محطات التحكم الأرضية المزودة بأجهزة رادار بعيدة المدى، بالإضافة إلى معدات إلكترونية للتتبع بعيد المدى، ومعدات لتحديد المواقع الجغرافية للطائرات المسيَّرة، وغير ذلك من الجهد العسكري للقوة الجوية للحشد الشعبي التي تشكَّلت (23) في 5 سبتمبر/أيلول 2019.

وخلال الاستعدادات للاستعراض المركزي، نشرت حسابات ومواقع إخبارية مقربة من "الفصائل المتنفذة" صورًا وتسجيلات أظهرت طائرات مسيرة محمولة على سيارات رباعية الدفع، منها "طائرات سايا" (24) إيرانية الصنع مخصصة للاستطلاع، وطائرات "مهاجر-6" (25) المسلحة بذخائر شديدة الانفجار والمعروفة بدقة إصابتها للأهداف من خلال توجيهها عبر منظومة تحديد المواقع العالمي (GPS). 

لقد أظهر الاستعراض المركزي تفوق القوات الجوية التابعة للحشد الشعبي في مجال الطائرات المسيرة على القوة الجوية التابعة للحكومة العراقية التي "لا تمتلك طائرات مسيرة، إنما تمتلك طائرات استطلاعية بقيادة طيارين" (26).

خطوات الدولة العراقية في مواجهة( الدولة الموازية):

أصدر رئيس الوزراء السابق، عادل عبد المهدي، في الأول من يوليو/تموز 2019، أمرًا ديوانيًّا برقم 237 يقضي بوجوب أن "تعمل جميع قوات هيئة الحشد الشعبي كجزءٍ لا يتجزأ من القوات المسلحة وبإمرة القائد العام للقوات المسلحة" (27)، إضافةً إلى غلق جميع المكاتب الاقتصادية لها بحلول تاريخ 31 يوليو/تموز 2019.

لكن فصائل الحشد الشعبي التي أعلنت التزامها بتنفيذ الأمر الديواني والتقيد "بغلق أي وجود في المدن تحت أي مسمى اقتصادي"، طلبت "مهلة شهرين" (28) إضافيين لتنفيذ الأمر، بينما "رفضت" (29) في الواقع، تنفيذ الأمر.

ومنذ توليه منصبه في مايو/أيار 2020، تبنَّى الكاظمي التقدم بخطوات "بطيئة وحذرة" باتجاه فرض سلطة الدولة على سلاح المجموعات الحليفة لإيران وإضعافها بالضغط على مصادر تمويلها، وإجراء تغييرات في القيادات الأمنية والعسكرية المقربة من تلك المجموعات، بالإضافة إلى اعتقال أو محاسبة بعض القيادات والعناصر التي تهدد أمن الدولة باستهداف البعثات الدبلوماسية والمصالح الأجنبية في العراق.

واتخذ رئيس الوزراء العراقي، مصطفى الكاظمي، المزيد من الخطوات لاستعادة هيبة الدولة ومؤسساتها الأمنية والعسكرية لتحجيم جزء من نفوذ المجموعات الشيعية شبه العسكرية الحليفة لإيران، أي "الفصائل المتنفذة" التي ارتبطت ببيعة "شرعية" للمرشد الإيراني الأعلى، علي خامنئي.

ومن بين أهم الخطوات التي اتخذها رئيس الوزراء العراقي، مصطفى الكاظمي، للحد من نفوذ المجموعات المسلحة الحليفة لإيران واستعادة قرار مؤسسات الدولة العراقية الأمنية والعسكرية والاقتصادية:

أولًا: إجراء تغييرات لقيادات أمنية وعسكرية

حاول الكاظمي إبعاد بعض القيادات الأمنية والعسكرية الحليفة أو المقربة من "الفصائل المتنفذة" بعد أن أدرك واقع تحدي سلطة الدولة بنزول المسلحين إلى شوارع العاصمة، بغداد، في أكثر من مرة.

ولإضعاف القيادات القريبة من إيران، أو الحليفة لها، والحد من تأثير "مئات المستشارين الإيرانيين" (30) عليهم، أجرى مصطفى الكاظمي عددًا من التغييرات في هيكلة وبُنية المستويات القيادية العليا في بعض المؤسسات الأمنية والعسكرية.

وأقصى الكاظمي رئيس هيئة الحشد الشعبي، فالح الفياض، الموصوف أميركيًّا بأنه "وكيل إيراني" (31) من منصبي رئيس جهاز الأمن الوطني ومستشار الأمن الوطني، في 4 يوليو/تموز 2020، وعيَّن القائد السابق لقوات جهاز مكافحة الإرهاب، مرشَّح ساحات التظاهر لخلافة عادل عبد المهدي (32)، الفريق المتقاعد عبد الغني الأسدي، بدلًا منه في منصب رئيس جهاز الأمن الوطني، وقاسم الأعرجي مستشارًا للأمن الوطني (33).

ويحتفظ الأعرجي، القيادي في منظمة بدر ووزير الداخلية السابق، بعلاقات جيدة مع الولايات المتحدة وكل من إيران وقيادات الحشد الشعبي، لذلك قد يجد فيه الكاظمي لاعبًا فاعلًا في التخفيف من حدة التوترات بين الحكومة العراقية والولايات المتحدة من جهة، والمجموعات الحليفة لإيران من جهة أخرى.

ويُنظر إلى التعيينات الجديدة بأنها حملة منسقة يقودها رئيس الوزراء تهدف إلى تعزيز قدرات القوات الأمنية على فرض القانون وإنفاذه للحد من تنامي نفوذ القوى الحليفة لإيران في مؤسسات الدولة العراقية الأمنية والعسكرية والسياسية بشكل تدريجي.

من الناحية الواقعية، فإن الكاظمي سيكون بحاجة إلى المزيد من الوقت يتجاوز فترة رئاسته "الانتقالية" لإعادة ترتيب المؤسسات الأمنية والعسكرية بعد تعيين قيادات جديدة على رأس جهاز مكافحة الإرهاب ومستشارية الأمن الوطني التي كانت منذ عام 2014 تحت رئاسة فالح الفياض، رئيس هيئة الحشد الشعبي المتهم من الولايات المتحدة بأنه "وكيل إيراني" في العراق.

ثانيًا: تجفيف الموارد المالية

مع تراجع الأداء الاقتصادي بسبب جائحة كورونا وانخفاض أسعار النفط في السوق العالمية خلال أعوام 2018 و2020، وتبعاتها على حكومة مصطفى الكاظمي "الانتقالية"، وفي محاولة منه لتعويض العجز في الخزينة العامة للدولة، وبهدف إضعاف القدرات المالية للفصائل المتنفذة التي تُسيطر على الجزء الأكبر من إيرادات المنافذ الحدودية، اتجه الكاظمي لتحريك ملف الفساد المالي في المنافذ الحدودية واستعادة سيطرة الدولة على المنافذ المهمة ذات الإيرادات العالية، مثل منفذي المُنذرية ومندلي الذي "يخضع لسيطرة الفصائل المسلحة الحليفة لإيران"(34).  

ومنذ 11 يوليو/تموز 2020، خصصت قيادة العمليات المشتركة بأوامر من الكاظمي "قوات نخبة للسيطرة على منفذي مندلي والمُنذرية بشكل دائم لمكافحة الفساد" (35).

وتتشكَّل قوات النخبة من عناصر من فرقة "قوات الرد السريع والحشد الشعبي" (36) ، التي تضعها الولايات المتحدة في "القائمة السوداء" (37)، ويقودها القيادي في منظمة بدر، اللواء ثامر محمد إسماعيل (أبو تراب الحسيني)، والذي تدور حوله شبهات بمسؤوليته عن "نشر قنَّاصين لاستهداف المتظاهرين" (38).

لذلك، فإن الاعتماد على قوات يقودها مقربون أو منتمون للفصائل والأحزاب المتنفذة، "قد" لا يؤدي إلى سيطرة الدولة على كافة إيرادات المنافذ الحدودية والقضاء على الفساد المالي فيها. 

تحدي الدولة الموازية للدولة العراقية

في حادثتين منفصلتين، فشل رئيس الوزراء، مصطفى الكاظمي، في إثبات قدرة الدولة على مواجهة "الفصائل المتنفذة".

يأتي فشل الكاظمي على الرغم من دعم الرئاسات الثلاثة (الجمهورية ومجلسي الوزراء والنواب) ومجلس القضاء الأعلى (39)، وكذلك دعم المرجعية الدينية لـ"تهدئة الأوضاع واستعادة هيبة الدولة"، ومنع تأثيرات "المال أو السلاح غير القانوني على أجواء الانتخابات" (40) في إشارة إلى تأثير سلاح "الفصائل المتنفذة" على الانتخابات القادمة المقررة في 10 أكتوبر/تشرين الأول القادم.

ومن مصادر قوة الكاظمي الأخرى، إمكانية استثماره دعم الكثير من الأحزاب والكتل السياسية غير المرتبطة بالفصائل المسلحة، والحركة الاحتجاجية، ووجود قوة جهاز مكافحة الإرهاب المدربة على عقيدة عسكرية أميركية تنفرد بكونها بعيدة "نسبيًّا" عن التخندق الطائفي، وتوظيف إعادة "عبد الوهاب الساعدي" المرفوض من قبل إيران وحلفائها، إلى الخدمة بعد ترقيته رئيسًا للجهاز، لقيادة أية حملة عسكرية تهدف إلى تقويض قدرات "الفصائل المتنفذة". 

في 25 يونيو/حزيران 2020، تم تكليف جهاز مكافحة الإرهاب بتنفيذ واجب إلقاء القبض على 14 متهمًا من مقر تابع لكتائب حزب الله العراق في إحدى مزارع منطقة الدورة جنوبي العاصمة، بغداد، لمسؤوليتهم عن استهداف المنطقة الخضراء ومطار بغداد الدولي بالنيران غير المباشرة عدة مرات.

لكن مجموعات من مسلحي "الفصائل المتنفذة" يستقلون عجلات حكومية اقتحموا المنطقة الخضراء دون اتخاذ أي إجراءات من القوة الأمنية المكلفة بحماية المنطقة التي "استجابت لتعليمات" (41) قيادي بارز حليف لإيران بألا تقف في طريق المسلحين الذين سيقتحمون المنطقة الخضراء. 

وفي دلالة على ضعف الدولة في مواجهة "الفصائل المتنفذة" وعدم القدرة على محاكمتهم، وأخذ تهديداتها على محمل الجد خشية المواجهة معها، أطلقت الجهات الحكومية المسؤولة سراح جميع "الذين اعتُقلوا من قبل جهاز مكافحة الإرهاب لعدم كفاية الأدلة" (42) في غضون أيام (43)، لا تكفي لإجراء التحقيقات الأصولية وفق القانون وعرضهم على المحاكم المتخصصة. 

وفي حادثة مماثلة، ألقت قوة أمنية عراقية القبض على قائد عمليات الحشد الشعبي في غرب الأنبار، قاسم مصلح، فجر 26 مايو/أيار 2021، بتهم تتعلق بالإرهاب (44)، والذي "أُطلق سراحه" (45) بعد أيام فقط من اعتقاله استجابة لضغوط واجهها رئيس الوزراء وتهديدات من "الفصائل المتنفذة" (46).

حاول الكاظمي من خلال قراره مداهمة موقع تابع لكتائب حزب الله العراق واعتقال القيادي في الحشد الشعبي، قاسم مصلح، استعادة جزء من هيبة الدولة ومؤسساتها المرتهنة لنفوذ قيادات الحشد الشعبي عمومًا، والحفاظ على الأمن والاستقرار الداخلي الذي هو الآخر رهن إرادة "الفصائل المتنفذة" المسلحة الحليفة لإيران، والتي أثبتت قدرتها على تحدي القوات الأمنية والحكومة الاتحادية بخروج أرتال من عجلاتها المسلحة، والتجوال في شوارع العاصمة بكامل أسلحتها واقتحام المنطقة الخضراء التي هي مركز الحكم في العراق دون أي إجراء من القوات الأمنية.

تحديات الحكومة في مواجهة الدولة الموازية

أولًا: حصر السلاح بيد الدولة

بعد تكليفه رسميًّا بتشكيل الحكومة خلفًا لرئيس الوزراء المستقيل عادل عبد المهدي، تعهد مصطفى الكاظمي، في أبريل/نيسان 2020، بـ"حصر السلاح بيد الدولة عبر إجراءات حاسمة" (47).

ويواجه مصطفى الكاظمي تحدي الرفض القاطع (48) للفصائل المتنفذة تسليم أسلحتها.

وتتحرك "الفصائل المتنفذة" بعجلات حكومية دون أخذ موافقات رسمية من الجهات المعنية، وهي فصائل تصفها الحكومة العراقية بأنها "جهات مسلحة لا تريد أن تكون جزءًا من الدولة والتزاماتها" (49).

ومع أن الحكومة العراقية تمتلك ما يكفي من القناعة التي تؤكد على وجود (السلاح المنفلت) بيد "الفصائل المتنفذة" خارج سلطة الدولة، لكنها لم تتخذ ما يكفي من الإجراءات لتقويض القدرات التسليحية للفصائل أو نزع أسلحتها.

ثانيًا: ضعف القوات الأمنية

في أغلب الحالات لا تلتزم "الفصائل المتنفذة" بالعمل تحت قيادة هيئة الحشد الشعبي التي ترتبط بمكتب القائد العام للقوات المسلحة، مصطفى الكاظمي، وتتخذ قراراتها بشكل مستقل سواء ما يتعلق بالتحركات العسكرية أو هيكلها التنظيمي، أو علاقاتها مع الحرس الثوري وحركة مقاتليها داخل العراق وخارجه، وكذلك مواقفها السياسية وعملياتها العسكرية داخل العراق وخارجه. 

وتكتفي القوات الأمنية بنشر المزيد من قواتها دون الدخول في مواجهات مع "الفصائل المتنفذة" بعد أي هجمات تُنفذها هذه الفصائل، أو ضد تحركاتها بعجلات مسلحة في شوارع العاصمة أو اقتحام مركز الحكم، أي المنطقة الخضراء ببغداد.

ولا يبدو أن الكاظمي يمتلك ما يكفي من الإمكانيات والقدرات لتنفيذ وعوده التي ألزم نفسه بها بالسيطرة على السلاح خارج سلطة الدولة، لإدراكه أن قوة ونفوذ تلك "الفصائل المتنفذة" قد يتسببان في نشوب "حرب أهلية" كما كان قد أشار من قبل، مؤكدًا أن هناك مخاطر جدية في إمكانية إدخال العراق بحالة من الفوضى الأمنية خلال ساعات إذا قرر قادتها ذلك وإمكانية الدخول إلى المنطقة الخضراء باعتبارها مركز الحكم والسيطرة عليها بعد تطويقها بكل سهولة.

ثالثًا: شرعية "الفصائل المتنفذة" الدستورية والدينية

يواجه الكاظمي تحدي إقناع القوات الأمنية بالدخول في قتال مع "الفصائل المتنفذة" التي تستمد شرعية وجودها من فتوى "الجهاد الكفائي" التي أطلقها المرجع الديني، علي السيستاني، في 13 يونيو/حزيران 2014، وقرار مجلس النواب، في 26 نوفمبر/تشرين الثاني 2016، الذي منحها الشرعية الدستورية، بالإضافة إلى واقع التداخل الاجتماعي بين مقاتلي هذين الفريقين واعتقاد أفراد القوات الأمنية بشرعية وجود "الفصائل المتنفذة" التي هي جزء من شرعية قوات الحشد الشعبي.

ولا تزال "الفصائل المتنفذة" تتلقى دعمًا خارجيًّا، وهي بالأساس تمتلك منظومة مالية مقتدرة عززتها المكاتب الاقتصادية، ومنظومة تسليحية متقدمة إلى حدٍّ ما سواء عن طريق الدعم الخارجي، أو عن طريق التصنيع والتطوير الخاص بها.

ويدرك رئيس الوزراء العراقي، مصطفى الكاظمي، المخاطر الحقيقية من مواجهة "الفصائل المتنفذة" وقدرتها على إدخال العراق في فوضى أمنية إلى جانب احتمالات سيطرتها على السلطة بالكامل كما حدث في صنعاء، عام 2014، وهو احتمال له نسبة معتبرة قد تلجأ إليه تلك الفصائل في حال وجدت تهديدًا جديًّا يُهدد وجودها.

لذلك، لا تبدو أي احتمالات واقعية لنهاية "الدولة الموازية" في المدى المنظور، بل على العكس من ذلك فإن هذه الدولة مستمرة في تعزيز قدراتها القتالية والاقتصادية وتوسيع مساحة نفوذها السياسي في مراكز القرار سواء في السلطة التنفيذية أو التشريعية.

 

المصدر: الجزيرة للدراسات